وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بان الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
(والقسم الثاني) ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو، فان مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة. والحاصل: أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس، فلهذا السبب قال تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات. وقال المفسرون:
(وجعل لكم السمع) لتسمعوا مواعظ الله (والابصار) لتبصروا دلائل الله، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب. قال الزجاج: ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد، وما قيل فيه فئدان كما قيل: غراب وغربان. وأقول: لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثير ان وأن الفؤاد قليل، لان الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقة والعلوم اليقينية، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالافعال البهيمية والصفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة فان قيل: قوله تعالى (وجعل لكم السمع والابصار) عطف على قوله (أخرجكم) وهذا يقتضى أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الاخراج عن البطن، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب: أن حرف الواو لا يوجب الترتيب: وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والابصار على الرؤية زال السؤال، والله أعلم.
أما قوله (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله) ففيه مسألتان:
(المسألة الأولى) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ألم تروا) بالتاء والباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار.
(المسألة الثانية) هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران. وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك. فإنه تعالى