ثم قال: * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * وفي محل: * (الذين) * وجوه: الأول: أنه بدل من قوله: * (والذين هاجروا) * والثاني: أن يكون التقدير: هم الذين صبروا. والثالث: أن يكون التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مدح، والمعنى: أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل. أما الصبر فللسعي في قهر النفس، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق، فالأول: هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى. والثاني: آخر هذا الطريق ونهايته، والله أعلم.
قوله تعالى * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري النبوة كانوا يقولون: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكا، وقد ذكرنا تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام فلا نعيده ههنا، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) * (الأنعام: 8) وقالوا: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * (المؤمنون: 47) وقالوا: * (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم) * (المؤمنون: 33، 34) وقال: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل