يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟.
قلنا: لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه، وحينئذ يدخل في اللفظ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب، وثبت أن إبليس ما كان معصوما من الذنوب بل كان كافرا، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة.
والوجه الثاني: في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة: * (وهم لا يستكبرون) * ثم قال لإبليس: * (استكبرت أم كنت من العالين) * (ص: 75) وقال أيضا له: * (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) * (الأعراف: 13) فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضا لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة والله أعلم. واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف.
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29) وهم لهذا الخوف يتركون الذنب. والثاني: وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، والدليل على صحته قوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم، كان الخوف منه أعظم، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء والله أعلم.
المسألة الثانية: قالت المشبهة قوله تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم) * هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده) * (الأنعام: 18) والذي نزيده ههنا أن قوله: * (يخافون ربهم من فوقهم) * معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى سقط قولهم، وأيضا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله: * (وإنا فوقهم قاهرون) * (الأعراف: 127) والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال: * (يخافون ربهم من فوقهم) * وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت