ثم قال: * (أن تكون أمة هي أربى من أمة) * أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقوله: * (أن تكون) * معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلا بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف. فقوله: * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * استفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أتتخذون أيمانكم دخلا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى.
ثم قال تعالى: * (إنما يبلوكم الله به) * أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تقدم ذكر الأمر والنهي: * (وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) * فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب، والله أعلم.
قوله تعالى * (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسالن عما كنتم تعملون) * اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أما المعتزلة: فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء، أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه، إلا أن ذلك يبطل التكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف، وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر، وهذه المناظرة قد تكررت مرارا كثيرة، وروى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزيز أعرض عن هذا، فأعاده ثانيا: فقال: أعرض عن هذا، فأعاده ثالثا، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة. قالت المعتزلة: ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء، أنه تعالى قال بعده: * (ولتسألن عما كنتم تعملون) * فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثا، والجواب عنه قد سبق مرارا، والله أعلم.