المرتبة الأولى: قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * يعني إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن، كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله، فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة: وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله: * (واصبر) * لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقا شديدا ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال: * (وما صبرك إلا بالله) * أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصول جميع أنواع الطاعات. ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال: * (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) * وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين: أحدهما: فوات نفع كان حاصلا في الماضي وإليه الإشارة بقوله: * (ولا تحزن عليهم) * قيل معناه: ولا تحزن على قتلى أحد، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء. ويرجع حاصله إلى فوت النفع. والسبب الثاني: لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله: * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن كثير: * (ولا تك في ضيق) * بكسر الضاد، وفي النمل مثله، والباقون: بفتح الضاد في الحرفين. أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور: قال أبو عبيدة: الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضيق. وقال أبو عمرو: الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم. وقال القتيبي: ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين. وبهذا الطريق قلنا: إنه تصح قراءة ابن كثير.
البحث الثاني: قرىء * (ولا تكن في ضيق) *.