المسألة الثالثة: الوسيلة فعلية، من وسل إليه إذا تقرب إليه. قال لبيد الشاعر: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ألا كل ذي لب إلى الله واسل أي متوسل، فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود. قالت التعليمية: دلت الآية على أنه لا سبيل إلى الله تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته، ومرشد يرشدنا إلى العلم به، وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقا، والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد، فلا بد فيه من الوسيلة. وجوابنا: أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به، والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمرا بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته، فيمتنع أن يكون هذا أمرا بطلب الوسيلة إليه في معرفته، فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ثم قال تعالى: * (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) * واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله * (اتقوا الله) * وبفعل ما ينبغي، بقوله * (وابتغوا إليه الوسيلة) * وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة، فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة، والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحسوسات، وكان بين الحالتين تضاد وتناف، ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين، وبالمشرق والمغرب، وبالليل والنهار، وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تعالى: * (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله * (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) * وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان، منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر. والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله * (وجاهدوا في سبيله) * أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته. والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله * (لعلكم تفلحون) * والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب. واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات، ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار، وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار، وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين:
(٢٢٠)