القاضي: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك، فإنه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء.
المسألة الثانية: خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها، منقطعة زائلة، قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله: * (وقولوا للناس حسنا) * (البقرة: 83) أي حسنا، والغرض منه المبالغة كأن تلك الأشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن، كما يقال: فلان جود وكرم، إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال فيما تقدم: * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) * (آل عمران: 145) فذكر لفظة " من " الدالة على التبعيض فقال في الآية: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) * ولم يذكر كلمة " من " والفرق: أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة، وأما المذكورون في هذه الآية فإنهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور، وهو المراد من قوله: * (اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا) * (آل عمران: 147) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم، وهو المراد بقوله: * (وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * (آل عمران: 147) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب، وهؤلاء فازوا بالكل، وأيضا أولئك أرادوا الثواب، وهؤلاء ما أرادوا الثواب. وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله.
ثم قال: * (والله يحب المحسنين) * وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: * (ربنا أغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا) * فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول لهم:
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز. وأيضا: انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى، فعند ذلك سماهم بالمحسنين، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن، الا إذا أعطاه الله ذلك الفعل