بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك، وأيضا فيه فائدة ثالثة، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة، وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط، فقال: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اللاتي: جمع التي، وللعرب في جمع " التي " لغات: اللاتي واللات واللواتي واللوات. قال أبو بكر الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان: التي، ومن الحيوان: اللاتي، كقوله: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * وقال في هذه: اللاتي واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد، وأما جمع الحيوان فليس كذلك، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات، فهذا هو الفرق، ومن العرب من يسوي بين البابين، فيقول: ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأول هو المختار.
المسألة الثانية: قوله: * (يأتين الفاحشة) * أي يفعلنها يقال: أتيت أمرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى: * (لقد جئت شيئا فريا) * (مريم: 27) وقال: * (لقد جئتم شيئا إدا) * (مريم: 89) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة، وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها، بل المكلف كأنه ذهب إليها من عند نفسه، واختارها بمجرد طبعه، فلهذه الفائدة يقال: إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب إليها، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال: فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
فان قيل: الكفر أقبح منه، وقتل النفس أقبح منه، ولا يسمى ذلك فاحشة.
قلنا: السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة: القوة الناطقة، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها، وأخس هذه القوى الثلاثة: القوة الشهوانية، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده.
المسألة الثالثة: في المراد بقوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * قولان: الأول: المراد