الملكوت السبحاني، حتى يشاهد معنى * (إنه بكل شئ محيط) * (1)، ويرى ذاته محاطا بها مقهورة تحت كبريائه تعالى، فحينئذ يشاهد وجوده تحت نقطة باء السببية لمسبب الأسباب، ويعاين عند ذلك تلك الباء التي في * (بسم الله) *، حيثما تجلت له عظمتها وجلالة قدرها ورفعة سر معناها، هيهات نحن وأمثالنا لا نشاهد من القرآن إلا سوادا، لكوننا في عالم الظلمة والسواد، وما حدث فيه من مد هذا المداد، أعني مادة الأبعاد والأجساد وهيولى الأضداد والأعداد، والمدرك لا يدرك شيئا إلا بما في قوة إدراكه دائما يكون من جنس مدركاته، بل هي عينها كما تحرر في محله، فالحس لا ينال إلا المحسوس، ولا الخيال إلا المتخيل، ولا العقل إلا المعقول، فلا يدرك النور إلا النور * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) *.
فنحن بسواد هذه العين لا نشاهد إلا سواد أرقام ومدار نقوش الكتاب، فإذا خرجنا عن هذا الوجود المجازي والقرية الظالم أهلها، مهاجرا إلى الله ورسوله في قطع المنازل التي بيننا وبين المطلب، وأدركنا الموت عن هذه النشآت والأطوار، التي بعضها صور حسية أو خيالية أو وهمية أو عقلية، وقطعنا النظر عن الجميع ومحونا بوجودنا في وجود كلام الله، ثم أحيانا الله بعد موتنا، وخرجنا من المحو إلى الصحو، ومن الفناء إلى البقاء، ومن الموت إلى الحياة حياة ثابتة باقية ببقاء الله، فما نرى بعد ذلك من القرآن سوادا أصلا، إلا البياض الخالص والنور الصرف