نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " فإنهم كانوا يقولون لو كانوا من عند الله تعالى أو لم ينزل على التدريج شيئا فشيئا كما هو دأب البلغاء فيما ينشؤنه والشعراء فيما ينظمونه فقال سبحانه " إن ارتبتم " في هذا الذي نزل متدرجا " فأتوا بسورة واحدة من مثله " على التدريج وعلى هذا يمكن أن يكون تعبيره جل وعلا في الآية الثانية مما نحن فيه لأنه سبحانه في صدد تذكيرهم بقضية بدر وتصوير تلك الأحوال كأنها حاضرة مشاهدة لهم من نزول المطر شيئا فشيئا حتى تلبدت الأرض وتثبت أقدامهم عليها فصنعوا الحياض واغتسلوا واطمأنوا وزال عنهم وسوسة الشيطان فقد روي أن الكفار سبقوا المسلمين إلى الماء فاضطر المسلمون ونزلوا على تل من رمل سيال لا تثبت فيه أقدامهم وأكثرهم خائفون لقلتهم وكثرة الكفار فباتوا تلك الليلة على غير ماء فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس وقال تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون بالجنابة وعلى غير وضوء وقد اشتد عطشكم ولو كنتم على الحق ما سبقوكم إلى الماء وإذا أضعفكم العطش قتلوكم كيف شاؤوا ويمكن أن يكون التنزيل في الآية الثانية بمعنى الإنزال أيضا فقد يستعمل كل من اللفظين بمعنى الآخر كما قال سبحانه الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وكقوله تعالى " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة وتكون النكتة في ذكر التنزيل في الآية الثانية التي نحن فيها التوافق في صيغة التفعيل بين المغيى وغايته التالية له والله أعلم بمراده والطهور هنا صيغة مبالغة في الطهارة وحيث إنها لا تق بالتشكيك فيراد به الظاهر في نفسه المطهر لغيره كما ذكره جماعة من اللغويين وهذا أقرب إلى (..) من أنه ما يتطهر به كالسحور لما يتسحر به والوقود لما يوقد به وأنكر أبو حنيفة استعمال الطهور بمعنى الطاهر (..) لغيره وزعم أنه بمعنى الطاهر فقط ويرده نص المحققين من اللغويين على خلافه وقوله صلى الله عليه وآله جعلت في الأرض مسجدا وترابها طهورا ولو أراد الطاهر لم يثبت المزية وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وقد سأل عن الوضوء بماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ولو لم يرد كونه مطهرا لم يستقم الجواب وقد روى العامة قوله صلى الله عليه وآله طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا ومعلوم أن المراد المطهر واحتج أبو حنيفة على ما زعمه بوجهين الأول أن المبالغة في صيغة فعول إنما هو بزيادة المعنى المصدري وشدته فيه كأكول وضروب وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن أصل الطهارة التي هي المعنى المصدري فكيف يراد منه وأجيب بأن ذلك تعدى الطهارة منه إلى غيره مسبب عن زيادتها وشدتها فيه فلا بد في خلاف ملاحظة ذلك عند إطلاق اللفظ وثانيهما قوله تعالى وسقيهم ربهم شرابا طهورا " ولا يراد به المطهر إذ ليس هناك نجاسة بل المراد شرابا طاهرا أي ليس نجسا كخمر الدنيا والجواب من وجهين الأول أن المراد بالطهور في الآية المطهر بمعنى المنظف فقد نقل أن الرجل من أهل الجنة تقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا فيأكل ما شاء ثم يسقى شرابا طهورا فيظهر بطنه ويصير ما أكله رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الثاني ما ذكره جماعة من المفسرين أن وصف ذلك الشراب بالطهور لأنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والالتفات إلى ما سوى الحق جل وعلا وقد روى مثل ذلك عن الصادق عليه السلام هذا ولعل المراد بقوله تعالى " ليطهركم به " الطهارة من النجاسة الحكمية أعني الجنابة والحدث الأصغر أو منهما ومن
(٣٤٧)