إلا استمرار إفاضة نور الوجود عليه واختصاصه بذلك دون غيره مما لا يقبله العقل السليم وأما جعله إشارة إلى الدليل العقلي المشهور في إثبات هذا المرام فهو كما ترى الرحمن الرحيم قد يتمسك بذكرهما من قال بعدم كون البسملة جزء من الفاتحة زاعما لزوم التكرار من دون ثمرة وليس بشئ إذ لو لم يكن فيه إلا تشييد مباني الرحمة والإشعار في مفتتح الكتاب بأن اعتناءه عز وعلا بها أكثر وأشد من الاعتناء ببقية الصفات لكفى كيف وأنه لما كان في وصفه سبحانه بكونه ربا للعالمين إشارة إلى المبدء وفي قوله تعالى " مالك يوم الدين " إشارة إلى المعاد ناسب أو يتوسط بينهما ما يشير إلى حسن صنعه جل شأنه فيما بينهما وأيضا ففيه بسط بساط الرجاء بالتنبيه على أن مالك يوم الجزاء رحمن رحيم فلا تيأسوا أيها المذنبون من صفحه عن ذنوبكم في ذلك اليوم الهائل واستوثقوا برحمته الكاملة أن لا يفضحكم على رؤس الأشهاد يوم تبلى السرائر وأيضا فتوسيط هذين الوصفين بين التخصيص بالحمد والتخصيص بالعبادة يتضمن الإيماء إلى أن المستأهل للحمد والمستحق للعبادة البالغ في الرحمة أقصى غايتها والموت للنعم عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها مالك قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف و قرأ باقي العشرة ملك يوم الدين وقد يؤيد القراءة الأولى بالانطباق على قوله عز من قائل " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله " والثانية بأنها أدخل في التعظيم وأنسب بالإضافة إلى يوم الدين وأشد طباقا بقوله جل شأنه " لمن الملك لله الواحد القهار " وأنه سبحانه وصف نفسه في خاتمة الكتاب بالملكية بعد وصفه بالربوبية فيناسب الجريان في فاتحة على ذلك المنوال وما يترآى من خدش هذا الوجه بمخالفته الترتيب النزولي للترتيب الحالي ليس بذاك إذ يكفي سبق علمه عز وعلا باستقرار ترتيب القرآن على ما هو عليه الآن والمالك من له التصرف في الأعيان التي في حوزته كيف يشاء والملك من له التصرف في أمور العامة بالأمر والنهي على سبيل الغلبة والاستيلاء والدين الجزاء خيرا كان أو شرا ومنه قولهم كما تدين تدان والمروي عن الباقر عليه السلام أن المراد به الحساب وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به توسعا والمراد مالك يوم الأمور كلها في ذلك اليوم وسوغ وصف المعرفة به إرادة المضي تنزيلا لمحقق الوقوع منزلة ما وقع على وتيرة ونادى أصحاب الجنة أو إرادة الاستمرار الثبوتي بناء على التنزيل المذكور وبقاء ذلك اليوم أبدا وعلى التقديرين فالإضافة حقيقة موجبة للتعريف وأما القراءة الثانية فمؤنتها أخف إذ هي من إضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها فهي حقيقية مثل كريم البلد إذ إضافتها اللفظية منحصرة في الإضافة إلى الفاعل لاشتقاقها من اللازم وهذا يصلح مؤيدا خامسا لهذه القراءة فإن قلت لم لم يجعل في القراءة الأولى بدلا ليخف المؤنة أيضا فقد اختار المحققون جواز إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة قلنا لأن البدل من المقصود بالنسبة والغرض أن الحمد ثابت له جل وعلا باعتبار هذه الصفات وهو يفوت على هذا التقدير كما لا يخفى وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه عز سلطانه ملك ومالك بجميع الأشياء في كل الأوقات والأيام لتعظيم ذلك اليوم الهائل ولمناسبة الإشارة إلى المعاد كما أن رب العالمين إشارة إلى المبدء وما بينهما إشارة إلى ما بين النشأتين كما مر ولأن الملك والملك الحاصلين في هذه النشأتين
(٤٠٠)