بخلاف سائر أنواع الطب وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالاكل والشرب فلا يقدح قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم والثاني أن الرقي بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقى وفعله السلف والخلف فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم وتعقب بأنه بنى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا وليس كذلك لما ساء بينه وجوز أبو طالب ابن عطية في موازنة الأعمال أن السبعين ألفا المذكورين هم المراد بقوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم فان أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم والا فلا وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب واني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين ألفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى (قوله ولا يتطيرون) تقدم بيان الطيرة في كتاب الطب والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية (قوله وعلى ربهم يتوكلون) يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الإسترقاء والاكتواء والطيرة ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لان صفة كل واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك وقد مضى القول في التوكل في باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه قريبا وقال القرطبي وغيره قالت طائفة من الصوفية لا يستحق اسم التوكل الا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له وأبى هذا الجمهور وقالوا يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو باعداد السلاح واغلاق الباب ونحو ذلك ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد انها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله وهم مع ذلك فيه على قسمين واصل وسالك فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا الا انه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقى إلى مقام الواصل وقال أبو القاسم القشيري التوكل محله القلب وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد ان الكل من قبل الله فان تيسر شئ فبتيسيره وان تعسر فبتقديره ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه أفضل ما أكل الرجل من كسبه وكان داود يأكل من كسبه فقد قال تعالى وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من
(٣٥٥)