شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣١ - الصفحة ٢٥٤
لا نبي بعدي فبقي ما عدى النبوة المستثناة ثابتا لعلي من كونه أخاه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك وهذه من المعارج الشراف ومدارج الإزلاف فقد دل الحديث بمنطوقه ومفهومه على ثبوت هذه المزية العلية لعلي (ع) وهو حديث متفق على صحته.
وثالث ذلك ورابعه قوله (ص): أنت مني وأنا منك وعلي مني وأنا من علي والكلام فيهما واحد.
وإيضاح معناهما وتبيين مقتضاهما أن لفظة " من " موضوعة لمعان كثيرة لكنها في مثل هذا النمط من الكلام حقيقتها الجزئية كقوله تعالى (خلق لكم من أنفسكم أزواجا) وقوله (خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار) وكقوله (ص) فاطمة بضعة مني فحقيقتها في مثل هذا التركيب من القول الجزئية ولهذا الجزئية لوازم فإن كون الشئ جزءا من الانسان كالولد والرأس والعين وسائر الأعضاء والأجزاء يلازمه أن ذلك الانسان بجهده يدفع عن جزئه الأذى من تطرق المكاره إليه ويجتهد في حراسته وفي إيصال كلما فيه نفعه إليه في حفظ صحته، هذا من لوازم حقيقة الجزئية وقد صرح النبي (ص) بهذه اللوازم لما قال: فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما يؤذيها وتقدم ذكر ذلك فلما لم يمكن إثبات الحقيقة تعين حمل اللفظ على لوازمها على ما علم استعمال اللفظ في لوازم الحقيقة وهيهنا الحقيقة غير مرادة لانتفائها لأن عليا (ع) ليس جزءا من ذات النبي (ص) ولا النبي جزءا من ذات علي فيكون المراد بهذا القول إثبات لوازم الحقيقة من إرادة حراسته عن المكاره ومدافعة الأذى عنه والسعي في إيصال المنافع إليه والإشفاق التام عليه وقد تقدم تقرير ذلك في لوازم الأخوة، في هذا الأمر ما يحكم لعلي (ع) بعلو الرتبة ويسجل له بسمو المكانة والمنزلة قد تضمن هذا الفضل وما قبله من حميد مزاياه وجميل سجاياه ومحبة الله ورسوله إياه ورعايته في منقلبه ومثواه من حين كفله ورباه وعنايته بأمره حتى هداه منهج هداه وزوجه ابنته البتول فرفع قدره وأعلاه وأزلفه من نفسه فاختص بها وأخاه بما عمه من المحاب والمنح فحباه ما تطرب تلاوة سورته فؤاد ذي الأحزان وتسلب حلاوة صورته رقاد النوم والوسنان ويقطع إيثار معرفة إسراع نجح حاجته العجلان وانطبع أنوار صفته غررا في وجوه الأيام وتحجيلا وحجولا في أطراف الزمان فهو يصح مزاج القلب السقيم ويلفح نتاج اللب العقيم ويهدي معتقديه إلى صراط المستقيم ويهدي إليهم أجرهم في الآخرة بالنعيم المقيم، وهذه الخلال مع كمالها في إبداء أوصافه وإجلال مقامه في مرتبع الأطوار مصطافة تستردف من نعوته التي شرفه بها يربو على شرفه بهاشمه وعبد منافه ما محله عند الله تعالى في المقام الأمين ذرى وجهه وشرف اعترفه. فيا أيها الطالب للاهتداء بهداه الراغب في الاقتداء بتقاه ومن لو قدره حق قدره لأتاه ولو سئل بذل جهده في هواه لأتاه شعر:
أصح واستمع آيات وحي تنزلت * بمدح إمام بالهدى خصه الله وفي آل عمران المباهلة التي * بإنزالها أولاه بعض مزاياه وأحزاب حميم وتحريم وهل أتى * شهود بها أثنى عليه فزكاه وإحسانه لما تصدق راكعا * بخاتمه زلفيه في نيل حسناه وفي آية النجوى التي لم يفز بها * سواه سنا رشد به تم معناه وأزلفه حتى تبوء منزلا * من الشرف الأعلا وآتاه تقواه وأكنفه لطفا به من رسوله * بوارق اشفاق عليه فرباه وأرضعه اخلاف أخلاقه التي * هداه بها نهج الهدى فتوخاه وأنكحه الطهر البتول وزاده * بأنك مني يا علي وآخاه وشرفه يوم الغدير فخصه * بأنك مولى كل من كنت مولاه ولم لم يكن إلا قضية خيبر * كفت شرفا في مأثرات سجاياه واعلم أن جملة هذه الآيات المتلوة ووجوه هذه الأبيات المحلوة قد اشتملت على عدة من مناقبه (ع) فمنها ما تقدم بيانه وهي آية المباهلة: (قل تعالوا ندع) إلى آخرها وآية الأحزاب: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وآية حمعسق: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وآية التحريم: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين)، بأبلغ بيان وأتم تفسير وكذلك تقدم ذكر قصة خيبر وقصة يوم الغدير وكذلك ما سواهما من قضايا الشرف ومن آيات التطهير ولم يبق منها شئ خصه القلم بالإرخاء والتأخير سوى آية المائدة وآية هل أتى وآية النجوى فسيأتي في فصولها المرصدة لها إن شاء الله تعالى بأوضح ذكر وأكمل تقرير، فهذا ما حبره القلم وسطره في هذا الفصل بتقدير العليم الخبير.
وقال الفاضل المعاصر حسن كامل الملطاوي في " رسول الله صلى الله عليه سلم في القرآن الكريم " (ص ٢٠٨ ط دار المعارف - القاهر):
قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاداهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال - فيما بلغنا عنه، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - تآخوا في الله أخوين أخوين، تم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي.
أقول: وليلحظ القارئ الكريم الشرف الكبير الذي خص به إمامنا علي بن أبي طالب بهذا الإخاء الذي شرفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم.