موسوعة التاريخ الإسلامي - محمد هادي اليوسفي - ج ٢ - الصفحة ٤١٠
يهود، ولا على دين محمد، ولا على دين قومه، فكيف تقبل قولا قاله؟!
قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمد، وإلا قتاله!
قال ابن سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا!
فأبى حيي إلا محاربة رسول الله.
وكان فيهم رجل ضعيف عندهم في عقله كأنه مجنون يقال له ساروك بن أبي الحقيق، فقال:
يا حيي، أنت رجل مشؤوم! تهلك بني النضير!
فغضب حيي وقال: كل بني النضير قد كلمني حتى هذا المجنون! فقام إليه إخوته فضربوه. وقالوا لحيي: أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك.
فقال حيي: أنا أرسل إلى محمد أعلمه أنا لا نخرج من دارنا وأموالنا فليصنع ما بدا له.
وأرسل أخاه جدي بن أخطب إلى رسول الله: أنا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى محمد ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر! فذهب جدي بن أخطب إلى رسول الله بالذي أرسله حيي، فجاء إلى رسول الله وهو جالس في أصحابه فأخبره، فأظهر رسول الله التكبير وكبر المسلمون لتكبيره.
وخرج جدي حتى دخل على ابن أبي وهو جالس في بيته مع نفير من حلفائه، فقال: أنا أرسل إلى حلفائي فيدخلون معكم!
ونادى منادي رسول الله يأمرهم بالمسير إلى بني النضير...
فدخل عبد الله بن عبد الله بن أبي على أبيه فلبس درعه وأخذ سيفه وخرج يعدو!
وأرسل ابن أبي إلى كعب بن أسد يكلمه أن يمد أصحابه، فقال كعب بن أسد: لا ينقض العهد من بني قريظة رجل واحد!
وسار رسول الله في أصحابه فصلىالعصر بفضاء بني النضير، فلما رأوا رسول الله وأصحابه قاموا على جدر حصونهم معهم الحجارة والنبل، فجعلوا يرمون ذلك اليوم بالحجارة والنبل حتى أظلموا. وصلى رسول الله العشاء واستعمل على العسكر عليا (عليه السلام) ورجع في عشرة من أصحابه إلى بيته على فرسه وعليه الدرع. وبات المسلمون يحاصرونهم حتى أصبحوا.
وأذن بلال بالمدينة فاستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وغدا رسول الله في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس في فضاء بني خطمة، وحملت له قبة من أدم أو مسوح (كساء الشعر) أرسل بها سعد بن عبادة، فأمر بلالا فضربها في موضع بفضاء بني خطمة، فدخل قبته. فرماه رجل من اليهود رام يقال له عزوك، فبلغ نبله قبة النبي، فأمر بقبته فحولت إلى موضع مسجد الفضيخ اليوم فتباعد عن النبل.
وأمسوا، وبات رسول الله بدرعه، وظل محاصرهم.
وفي ليلة من الليالي فقد علي بن أبي طالب (عليه السلام) قرب العشاء، فقال الناس: ما نرى عليا يا رسول الله؟ قال: دعوه فإنه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك فطرحه بين يدي رسول الله، فقال: يا رسول الله إني كمنت لهذا الخبيث، قلت: ما أجر أن يخرج إذا أمسينا يطلب مناغرة (وهذا يقتضي الليلة الأولى) فأقبل مصلتا سيفه في نفر من اليهود فشددت عليه فقتلته، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريبا، فإن بعثت معي نفرا رجوت أن أظفر بهم!
فبعث رسول الله معه أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم، فقتلوهم وأتوا برؤوسهم، فأمر رسول الله برؤوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.
وأمر رسول الله رجلين من أصحابه بقطع نخلهم: عبد الله بن سلام وأبا ليلى المازني، وكان عبد الله بن سلام يقطع غير البرني والعجوة، وأبو ليلى يقطع العجوة، فلما قطعت العجوة دعون النساء بالعويل وضربن الخدود وشققن الجيوب، فقال رسول الله: ما لهن؟
قيل: يجزعن على قطع العجوة!
وأرسل حيي إلى رسول الله: يا محمد، إنك كنت تنهى عن الفساد، فلم تقطع النخل؟
نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك.
فقال رسول الله: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة (السلاح).
فقال سلام لحيي: إقبل ويحك قبل أن تقبل شرا من هذا! فأبى حيي أن يقبل يوما أو يومين، فلما رأى ذلك أبو سعد بن وهب ويامين بن عمير قال أحدهما لصاحبه: وإنك لتعلم أنه لرسول الله، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما.
فأحرزا دماءهما وأموالهما.
وحاصرهم رسول الله خمسة عشر يوما، ثم نزلت اليهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، وقالوا: إن لنا ديونا على الناس إلى آجال! فقال رسول الله: تعجلوا وضعوا.
فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير مئة وعشرون دينارا إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا، وأبطل ما فضل (فيعلم أنه كان قرضا ربويا).
وحملوا النساء والصبيان، وخرجوا على بني الحارث بن الخزرج ثم على الجبلية ثم على الجسر حتى مروا بالمصلى، ثم سوق المدينة، والنساء في الهوادج عليهن من الحرير والديباج وقطف الخز الخضر والحمر، وقد صف الناس، فجعلوا يمرون قطارا في إثر قطار على ستمئة بعير! ومروا وهم يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النساء المعصفرات وحلي الذهب، قد أبرزوا ذلك تجلدا. ونادى أبو رافع سلام ابن أبي الحقيق وهو يرفع زمام الجمل:
هذا ما كنا نعده لخفض الأرض، فإن يكن النخل قد تركناها فإنا نقدم على نخل بخيبر!
وقبض رسول الله الأموال وقبض الحلقة، فوجد من الحلقة: خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمئة وأربعين سيفا.
فلما غنم رسول الله بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس فقال له: ادع لي قومك.
قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال: الأنصار كلها. فدعا له الأوس والخزرج.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وآثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم؟
فتكلم سعد بن عبادةوسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. فقال رسول الله: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.
ثم قسم رسول الله ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفئ شيئا، إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا مذكورا عندهم. وكان مال سهل بن حنيف وأبي دجانة معروفا يقال له: مال ابن خرشة، وأعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة بن عبد الأسد:
البويلة، وأعطى حبيب بن سنان: الضراطة، وأعطى عبد الرحمان بن عوف شؤالة، وأعطى أبا بكر بئر حجر، وأعطى عمر بئر جرم.
واستعمل رسول الله على أموال بني النضير مولاه أبا رافع (وهذا أول ذكر لأبي رافع) وإنما كان ينفق على أهله من بني النضير إذ كانت خالصة له، وكان يزرع تحت النخل زرعا كثيرا، منها قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني عبد المطلب، فما فضل جعله في السلاح والخيل. وكانت منها صدقاته، ومن أموال مخيريق (اليهودي الشهيد ببدر) وهي سبعة حوائط: الميثب، والصافية، والدلال، وحنى، وبرقة، والأعواف، والمشربة التي سميت بعد بأم إبراهيم.
وكان ذلك بعد نزول سورة الحشر وفيها قوله - سبحانه -: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) * (الحشر: 7 و 8) ومع ذلك قال عمر لرسول الله: يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟!
فقال رسول الله: لا أجعل شيئا جعله الله لي من دون المؤمنين كما وقع فيه السهمان للمسلمين - مغازي الواقدي 1: 364 - 380. هذا وهو لم يخمس في بدر.
وبصورة ضمنية تبين تأريخ خروج المهاجرين الفقراء من دور الأنصار أيضا.
وقال ابن إسحاق: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) يذكر إجلاء بني النضير:
عرفت، ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذي الرأفة الأرأف رسائل تدرس في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف ألستم تخافون أدنى العذاب *، وما آمن الله كالأخوف وأن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبي الأشرف غداة رأى الله طغيانه * وأعرض، كالجمل الأجنف فأنزل جبريل في قتله * بوحي إلى عبده ملطف فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذي ضبة مرهف فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف وقلن لأحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف فخلاهم ثم قال: اظعنوا * دجورا على رغم الآنف وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوي زخرف إلى أذرعات ردافى وهم * على كل ذي دبر أعجف سيرة ابن هشام 3: 207.
وعليه، فقتل كعب بن الأشرف كان من قبل، ولعل اسمه جاء في خبري أبان والقمي خطأ، بدلا عن حيي بن أخطب زعيم بني النضير. ولم ننس أن الحرب هذه بدأت بعد أن استعان بهم النبي (صلى الله عليه وآله) على دية القتيلين من بني كلاب العامريين، ونص التأريخ على أنه وداهما وإن لم يتذكروا ذلك بعد نهاية أمر بني النضير، وزاد الواقدي: عزل رسول الله سلبهما حتى بعث به مع ديتهما - 1: 364 -.