والمدح، على أن يتخلص من أحدهما إلى الآخر بالطف تخلص. بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به، وممتزجا معه.
وإذا كان ابن طباطبا قد ألح على ضرورة وحدة القصيدة حتى تصبح كالكلمة، فإنه قد ألح على ضرورة الصدق، وهو ما نسميه اليوم بصدق التجربة ونكاد اليوم نعبر كما عبر ناقدنا العربي القديم عند ما قال بعد حديثه عن أسباب تأثير الشعر في النفس: فإذا وافقت هذه المعاني هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند مستمعها، لا سيما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها.
هذه النظرة الصائبة، إلى الصدق في الشعر يرى ابن طباطبا أنها كانت متحققة في شعراء الجاهلية الجهلاء وصدر الاسلام.
د غير أن شيئا يحتمل الكذب فيه في حكم الشعر، ذلك هو الاغراق في الوصف، والافراط في التشبيه. ويورد الناقد أمثلة للأبيات التي أغرق قائلوها في معانيها.
ويبدو لي ان ابن طباطبا لم يكن راضيا عن هذا الاغراق، فإنه يقول بعد أن أورد أمثلة: وقد سلك جماعة من الشعراء المحدثين سبيل الأوائل في المعاني التي أغرقوا فيها، فالتعبير بجماعة يشعر باتجاهه الذي لا يرضى عن هذا الاغراق، كما أنه عند ما تحدث عما يجب على الشاعر أن يتبعه، كان من ذلك أن يتعمد الصدق والوفق في تشبهاته وحكاياته. وان حرارته في الحديث عن الصدق تدل على نفرته من المبالغة والاغراق.
ه وللشعر الجيد صفات يجب أن تتحقق فيه، وأخرى يجب أن يبرأ منها، فمما ينبغي أن يتحقق في الشعر:
جودة معناه، فالكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه، كما قال بعض الحكماء: الكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه.
وأن تشاكل الألفاظ المعاني، بمعنى أن يتأنق الشاعر في اختيار ألفاظه حتى تبدو المعاني في صورة قوية رائعة، فان الألفاظ للمعاني كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنا في بعض المعارض دون بعض. وكم من معنى حسن شين بمعرضه الذي أبرز فيها، وكم معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح ألبسه، وكم من زائف وبهرج قد نفقا على نقادهما، وكم من حكمة غريبة قد ازدريت لرثاثة كسوتها ولو جليت في غير لباسها ذلك لكثر المشيرون إليها.
وهو بذلك كنقاد العرب الذين يعنون عناية كبرى بالصياغة وجمال عرض المعاني.
ولم يحدد ناقدنا، أعني ابن طباطبا، معنى القبح في المعنى، ولكنه ضرب الأمثلة للمعاني الواهية سوف نوردها في مكانها.
وأحسن الشعر ما وضعت فيه كل كلمة موضعها. حتى تطابق المعنى الذي أريدت له، من غير حشو يجتلب، كأنما جئ به لاكمال الوزن، ومن غير تفريق بين الكلمة وأختها، وأن تكون سهلة على اللسان، غير مستكرهة في مكانها ولا متعبة.
ومن الكلمات التي ينبغي أن توضع في مكانها قافية البيت، فينبغي أن تكون قد جاءت لمعنى يكمل به معنى البيت، لا ليتم بها وزن الشعر ليس غير، فيكون ما قبلها مسوقا إليها، ولا تكون مسوقة إليه، فتقلق في مواضعها، ولا توافق ما يتصل بها، ومعنى ذلك أن القافية ينبغي أن يسوق إليها معنى البيت، فتاتي لتكمل معناه، وتكون لذلك مستقرة في مكانها غير قلقة ولا متعبة، أما إذا تم المعنى بدونها، واستجلبت القافية قسرا، ليكمل وزن البيت من الشعر فحسب، فبأنها تكون قلقة لا تتصل بما قبلها.
اما ما ينبغي اجتنابه في الشعر، فالتفاوت في نسجه، فإذا أسس الشاعر شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة اتبعها أخواتها وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القياد.
ودعا ابن طباطبا الشاعر أيضا إلى اجتناب سفساف الكلام، وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة، والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثة، وجعل هذه الأشياء كأنما هي رقعة تزري بالثوب الجميل. ويدعا إلى أن يستعمل الشاعر من المجاز ما يقارب الحقيقة، ولا يبعد عنها ومن الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها.
(و) وعاب ابن طباطبا أن تزيد قريحة الشاعر على عقله، ومعنى زيادة القريحة ان يستغرق الشاعر في فنه، يبحث عن معنى له قيمته في حد ذاته، بقطع النظر عن الظروف الأخرى. ومن الأمثلة التي ساقها الناقد العربي لذلك قول جرير:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلى قطينا فالشاعر هنا قد استغرق في فن الفخر بنفسه، ومما لا شك فيه أن فخره يزداد قوة بان يكون قريبا لخليفة دمشق، وأن يكون الخليفة بحيث لا يرد له طلبا، فلو أنه طلب منه أن يجعلهم خدما له لنفذ الخليفة له ما يريد. ونسي جرير في غمرة الفخر ان الخليفة أكبر من أن يؤمر ولذلك يروي أن الخليفة قال له: جعلتني شرطيا لك. أما لو قلت لو شاء ساقكم إلي فطينا لسقتهم إليك عن آخرهم.
ز وابن طباطبا في هذا المقام يشبه النقاد المحدثين في نظرتهم الموضوعية إلى الشعر، فان الشعر إذا كان ذاتيا، يصور تجربة ذاتية للشاعر، يختص بها، ولها سماتها ومعالمها التي تخصه وحده، فان على الشاعر أن يتخذ هذه التجربة الذاتية موضوع تأمله، يحكم فيها عقله، وينفذ فيها ببصيرته، ويعرضها على تفكيره، ليقبل منها ما يرضاه عقله، ويرفض منها ما لا يرضاه. ولذلك جعل ابن طباطبا جماع الأدوات التي يحتاج إليها الشاعر كمال العقل الذي به تتميز الأضداد، وعليه أن يحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها.
ح وجعل ابن طباطبا مقياس قبول الشعر ورفضه ان يورد على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه فهو واف، وما مجه ونفاه فهو ناقص.
ويعلل ابن طباطبا لقبول الفهم الناقد للشعر الحسن، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله، وتكرهه لما ينفيه، بان كل حاسة من