القوة العاقلة فإنها مبرأة عن الجهات، فإنها تعقل الجهة والجهة ليست في الجهة، ولذلك تعقل أن الشيء إما أن يكون في الجهة، وإما أن لا يكون في الجهة، وهذا الترديد لا يصح إلا بعد تعقل معنى قولنا ليس في الجهة. الثامن عشر: القوة الباصرة تعجز عند الحجاب، وأما القوة العاقلة فإنها لا يحجبها شيء أصلا فكانت أشرف. التاسع عشر: القوة العاملة كالأمير، والحاسة كالخادم والأمير أشرف من الخادم، وتقرير (الفرق بين) الإمارة والخدمة مشهور. العشرون: القوة الباصرة قد تغلط كثيرا فإنها قد تدرك المتحرك ساكنا وبالعكس، كالجالس في السفينة، فإنه قد يدرك السفينة المتحركة ساكنة والشط الساكن متحركا، ولولا العقل لما تميز خطأ البصر عن صوابه، والعقل حاكم والحس محكوم، فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نورا من الإدراك البصري، وإذا ثبت هذا فنقول هذه الأنوار العقلية قسمان: أحدهما: واجب الحصول عند سلامة الأحوال وهي التعقلات الفطرية والثاني: ما يكون مكتسبا وهي التعقلات النظرية أما الفطرية فليست هي من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالما البتة فهذه الأنوار الفطرية إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب وأما النظريات فمعلوم أن الفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ في الأكثر وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار، فبالحري أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا، فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين وبهذا يظهر معنى قوله: * (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) * (التغابن: 61) وقوله: * (قد جاءكم برهان من ربكم) * (النساء: 174) * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (النساء: 174) وإذا ثبت أن بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية، فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61) ووصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير، إذا عرفت هذا فنقول ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة قال تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) وقال: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وقال: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) * (النحل: 102) وقال تعالى: * (إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى) * (النجم: 4، 5) والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء، لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب. ثم نقول ثبت أيضا بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها
(٢٢٨)