الجوارح هذا الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام، فتكون تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح توسعا الثاني: أنه سبحانه بيني هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله، قال القاضي وهذا أقرب إلى الظاهر، لأن ذلك يفيد أنها تفعل الشهادة وثالثها: قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * ولا شبهة في أن نفس دينهم ليس هو المراد لأن دينهم هو عملهم. بل المراد جزاء عملهم، والدين بمعنى الجزاء مستعمل كقولهم كما تدين تدان، وقيل الدين هو الحساب كقوله ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح ومعنى قوله: * (الحق) * أي أن الذي نوفيهم من الجزاء هو القدر المستحق لأنه الحق وما زاد عليه هو الباطل، وقرئ الحق بالنصب صفة للدين وهو الجزاء وبالرفع صفة لله.
وأما قوله: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * (النور: 25) فمن الناس من قال إنه سبحانه إنما سمي بالحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره أو لأنه الحق فيما يأمر به دون غيره ومعنى * (المبين) * يؤيد ما قلنا لأن المحق فيما يخاطب به هو المبين من حيث يبين الصحيح بكلامه دون غيره، ومنهم من قال الحق من أسماء الله تعالى ومعناه الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى المبين المظهر ومعناه أن بقدرته ظهر وجود الممكنات، فمعنى كونه حقا أنه الموجود لذاته، ومعنى كونه مبينا أنه المعطي وجود غيره.
قوله تعالى * (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) *.
اعلم أن الخبيثات يقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، ويقع أيضا على الكلام الذي هو كالذم واللعن، ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى، بل المراد مضمون الكلمة، ويقع أيضا على الزواني من النساء، وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة، فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس، وإن حملناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن، فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال، والخبيثون منهم معرضون للعن والذم. وكذا القول في الطيبات وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات، وإن حملناه حملناه على الزواني فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وبالعكس، على معنى قوله تعالى: