إعلم أن ظاهر قوله: * (يا أيها الرسل) * خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم، فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه: أحدها: أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها: أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل، وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله * (الذين قال لهم الناس) * (آل عمران: 173) وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط، بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها: وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لي، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيبا ولا يعملوا إلا صالحا.
أما قوله تعالى: * (من الطيبات) * ففيه وجهان: الأول: أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني: أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها، فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم. واعلم أنه سبحانه كما قال المرسلين * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) * فقال للمؤمنين: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *، واعلم أن تقديم قوله: * (كلوا من الطيبات) * على قوله: * (واعملوا صالحا) * كالدلالة على أن العمل الصالح لا بد وأن يكون مسبوقا بأكل الحلال ، فأما قوله: * (إني بما تعملون عليم) * فهو تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان ذلك تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى.
أما قوله: * (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) * فقد فسرناه في سورة الأنبياء وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى. فإن قيل لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحدا؟ قلنا المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافا في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر