إعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا، وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
فأما قوله: * (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين) * فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا.
أما قوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها، ويحتمل آجال موتها وهلاكها، وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت، فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت، لا يتقدم ولا يتأخر، منبها بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم، ونظيره قوله تعالى: * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) * وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
المسألة الثانية: قال الكعبي: المراد من قوله: * (ما تسبق من أمة) * أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه، ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم، ولا ضرر على أحد في هلاكهم، وهو كقول نوح عليه السلام: * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (نوح: 27).
أما قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترا) * فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترى منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد، قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة.
أما قوله تعالى: * (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) * (المؤمنون: 44) يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال: * (فأتبعنا بعضهم بعضا) * أي بالهلاك.
(وقوله): * (وجعلناهم أحاديث) * يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغا صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به.
ويمكن أيضا أن يكون جمع أحدوثة مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا.
ثم قال: * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) * على وجه الدعاء والذم والتوبيخ، ودل بذلك على أنهم كما أهلكوا عاجلا فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب وذلك وعيد شديد.