كقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9)، * (إنا أعطيناك الكوثر) * (الكوثر: 1) فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه! وثانيها: وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق وثالثها: أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلا لأنه أعطى مالا ينبغي، ومن أعطى ليستفيد منه عوضا إما ماليا أو مدحا أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال: * (وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * (الليل: 17 - 20) وقال في حق علي: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * (الإنسان: 9، 10) فعلي أعطى للخوف من العقاب، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها: أنه قال: * (أولوا الفضل منكم) * فكلمة من للتمييز، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير، وإلا لما كانت مميزة له بعينه، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره البتة وخامسها: أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله: * (والسعة) * على الإحسان إلى المسلمين، فكأنه كان مستجمعا للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين، وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له: * (لا تحزن إن الله معنا) * (التوبة: 40) وسادسها: إنما يكون الإنسان موصوفا بالسعة لو كان جوادا بذولا، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: " خير الناس من ينفع الناس " فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة، ولقد كان رضي الله عنه جوادا بذولا في كل شيء، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة، وأيضا فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده، ولكن اتفقوا على أن عليا حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالا بالدعوة إلى دين محمد، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضا وسابعها: أن الظلم من ذوي القربى أشد، قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهند