أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول السادس: القوى الحسية تضعف بعد الأربعين، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجبا لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن، والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها السابع: القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزها عن القرب والبعد والجهة فكانت القوة العقلية أشرف الثامن: القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه، وإلا اللون القائم بذلك السطح، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها، فكانت القوة العاقلة نورا بالنسبة إلى الباطن والظاهر، أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة، فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة التاسع: أن مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعاله، ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال، فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال العاشر: القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات التي هي معروضات الموجودات والمعدومات، ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه. وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام والأجسام أخس من الجواهر الروحانية، فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات. وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات فكانت القوة العاقلة أشرف. الحادي عشر: القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد، والقوة الباصرة لا تقوى على ذلك. أما أن القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير، فذاك لأنها تضم الجنس إلى الفصل فيحدث منهما طبيعة نوعية واحدة، وأما أنها تقوى على تكثير الواحد فلأنها تأخذ الإنسان وهي ماهية واحدة فتقسمها إلى مفهوماتها وإلى عوارضها اللازمة وعوارضها المفارقة، ثم تقسم مقوماته إلى الجنس وجنس الجنس، والفصل وفصل الفصل، وجنس الفصل وفصل الجنس،
(٢٢٦)