العذرين، قال لهم سبحانه: * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) * وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل. قال القاضي في قوله: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا) * دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم، قال لهم: * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) *.
أما قوله: * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) * فالمعنى: أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.
أما قوله: * (اخسؤا فيها) * فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه.
أما قوله: * (ولا تكلمون) * فليس هذا نهيا لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا) * (السجدة: 12) فيجابون * (حق القول مني) * (السجدة: 13) فينادون ألف سنة ثانية * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * فيجابون * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) * (غافر: 12) فينادون ألف ثالثة * (يا مالك ليقض علينا ربك) * (الزخرف: 77) فيجابون * (إنكم ماكثون) * (الزخرف: 77) فينادون ألفا رابعة * (ربنا أخرجنا) * فيجابون * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * (إبراهيم: 44) فينادون ألفا خامسة * (أخرجنا نعمل صالحا) * (فاطر: 37) فيجابون * (أولم نعمركم) * (فاطر: 37) فينادون ألفا سادسة * (رب ارجعون) * (المؤمنون: 99) فيجابون * (اخسؤا فيها) * ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله: * (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا) * فوصف تعالى أحد ما لأجله عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين. وفي حرف أبي * (أنه كان فريق) * بالفتح بمعنى لأنه. وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى. وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية. قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزوا حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله: * (وكنتم منهم تضحكون) * ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال: * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) *