قولهم: * (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * قال صاحب " الكشاف " لم يقل مثلينا كما قال: * (إنكم إذا مثلهم) * (النساء: 14) ولم يقل أمثالهم وقال: * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110) ولم يقل أخيار أمة كل ذلك لأن الإيجاز أحب إلى العرب من الإكثار والشبهة مبنية على أمرين: أحدهما: كونهما من البشر وقد تقدم الجواب عنه والثاني: أن قوم موسى وهارون كانوا كالخدم والعبيد لهم قال أبو عبيدة العرب تسمى كل من دان لملك عابدا له ويحتمل أن يقال إنه كان يدعي الإلهية فادعى أن الناس عباده وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة ثم بين سبحانه أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب وهو المراد من قوله: * (فكذبوهما) *.
ولما كان ذلك التكذيب كالعلة لكونهم من المهلكين لا جرم رتبه عليه بفاء التعقيب فقال وكانوا ممن حكم الله عليهم بالغرق فإن حصول الغرق لم يكن حاصلا عقيب التكذيب ، إنما الحاصل عقيب التكذيب حكم الله تعالى بكونهم كذلك في الوقت اللائق به.
أما قوله: * (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) * فقال القاضي معناه أنه سبحانه خص موسى عليه السلام بالكتاب الذي هو التوراة لا لذلك التكذيب لكن لكي يهتدوا به فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا أن يهلكوا، واعترض صاحب " الكشاف " عليه فقال لا يجوز أن يرجع الضمير في لعلهم إلى فرعون وملائه لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملائه بدليل قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) * (القصص: 43) بل المعنى الصحيح: ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ومواعظها فذكر موسى والمراد آل موسي كما يقال هاشم وثقيف والمراد قولهما. القصة الخامسة - قصة عيسى وقصة مريم عليهما السلام قوله تعالى * (وجعلنا بن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين) *.
اعلم أن ابن مريم هو عيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية بأن خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد في الصغر وأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأما مريم فقد جعلها الله تعالى آية لأنها حملته من غير ذكر. وقال الحسن تكلمت مريم في صغرها كما تكلم عيسى عليه السلام وهو قولها: * (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * (آل عمران: 37) ولم تلقم ثديا قط، قال القاضي إن ثبت ذلك فهو معجزة لزكريا عليه السلام لأنها لم تكن نبية، قلنا القاضي إنما قال ذلك لأن عنده الإرهاص غير جائز وكرامات الأولياء غير جائزة وعندنا هما جائزان فلا حاجة إلى ما قال، والأقرب أنه جعلهما آية بنفس الولادة لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة والذي يدل على أن هذا التفسير أولى وجهان: أحدهما: أنه تعالى