عباد الله وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالا منهم.
وإذا ثبت هذا فنقول: كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون الله مستحقا للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما جوزوا كون العبد موجدا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم. وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله: * (لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) * والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال: حوله فتحول.
ثم قال تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * وفيه قولان: الأول: قال الفراء قوله: * (يدعون) * فعل الآدميين العابدين. وقوله: * (يبتغون) * فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا: لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه، فنقول: هؤلاء الملائكة إما أن يقال: إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
والقول الثاني: أن قوله: * (أولئك الذين يدعون) * هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) * (الإسراء: 55) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى