البحث الثالث: قوله: * (فظلموا بها) * أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها، وقال ابن قتيبة: * (ظلموا بها) * أي جحدوا بأنها من الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * قيل: لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة.
فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف.
قلنا: المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات، فالمراد من قوله: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * هذا الذي ذكرناه، والله أعلم.
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزات القاهرة، وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له: لو كنت رسولا حقا من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال: * (وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * وفيه قولان:
القول الأول: المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، والمقصود كأنه تعالى يقول له: ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا. قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67).
والقول الثاني: أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى: وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، ونظيره قوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (القمر: 45) وقال: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون) * (آل عمران: 12) إلى قوله: * (أحاط بالناس) * لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال: * (أحاط بالناس) * وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي " ثم خرج