ونظمه معجزا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة، فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورا لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال: * (ويعلمهم الكتاب) *. الصفة الثالثة: من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (والحكمة) أي ويعلمهم الحكمة. واعلم أن الحكمة هي: الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيما إلا من اجتمع له الأمران وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه. قال القفال: وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه. أحدها: قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له. وثانيها: قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولا وتعليمه ثانيا ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام. فإن قيل: لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟ قلنا: لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى. وثالثها: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالقعدة والجلسة. والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة. ورابعها: ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة. (والحكمة) أراد بها الآيات المتشابهات. وخامسها: * (يعلمهم الكتاب) * أي يعلمهم ما فيه من الأحكام. (والحكمة) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع، ومن الناس من قال: الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة. الصفة الرابعة: من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: قوله: " ويزكيهم " واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين. أحدهما: أن يعرف الحق لذاته. والثاني: أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيا عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال: (ويزكيهم) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة
(٧٤)