الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة. فالأول: يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم. والثاني: بالأمر على ألسنة الرسل. المسألة الخامسة: إنما قال في هذه السورة: * (بلدا آمنا) * على التنكير وقال في سورة إبراهيم: * (هذا البلد آمنا) * على التعريف لوجهين. الأول: أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) * (إبراهيم: 37) فقال: ههنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمنا. الثاني: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلدا، فقوله: * (اجعل هذا بلدا آمنا) * تقديره: اجعل هذا البلد بلدا آمنا، كقولك: كان اليوم يوما حارا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة، فقوله: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا) * معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة، وأما قوله: * (وارزق أهله من الثمرات) * فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم، فاستجاب الله تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء، أما قوله: * (من آمن منهم) * فهو يدل من قوله: * (أهله) * يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة، وهو كقوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 97) واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوما كفارا بقوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس، أما النص فقوله تعالى: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * (المائدة: 124) وأما القياس فمن وجهين:
الوجه الأول: أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) فصار ذلك تأديبا في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله:
فأمتعه قليلا) * الفرق بين النبوة ورزق الدنيا، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه.
الوجه الثاني: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب، أما قوله تعالى: * (ومن كفر فأمتعه قليلا) * ففيه مسألتان: