والجواب عنه من وجوه، أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك. وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة. وثالثها: لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة.
المسألة الثانية: * (بلدا آمنا) * يحتمل وجهين. أحدهما: مأمون فيه كقوله تعالى: * (في عيشة راضية) * (القارعة: 7) أي مرضية. والثاني: أن يكون المراد أهل البلد كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد.
المسألة الثالثة: اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه. أحدها: سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع. وثانيها: سأله الأمن من الخسف والمسخ. وثالثها: سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا، ثم سأله الرزق ثانيا، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) * وقال في آية أخرى: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * ثم قال في آخر القصة: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) * إلى قوله: * (وارزقهم من الثمرات) * (إبراهيم: 37) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ، أو لعله الأمن من القحط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون: إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه السلام: " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " وأيضا قال إبراهيم: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) * (إبراهيم: 37) وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء، وقال آخرون: إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام: " اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ". والقول الثالث: إنها كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير