لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * لأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا، فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه. الأول: أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف، فقوله: * (فثم وجه الله) * أي: فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة. الثاني: أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست أحصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل ونظيره قوله تعالى: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79). الثالث: أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله، ونظيره قوله تعالى: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * (الإنسان: 9) يعني لرضوان الله، وقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) يعني ما كان لرضا الله، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه. الرابع: أن الوجه صلة كقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئا آخر غيره، إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر، واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى، فإنه يقال لهذا القائل: فما معنى قوله تعالى: * (فثم وجه الله) * مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد: فثم قبلته التي يعبد بها، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته. والجواب عن الثاني: وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعا فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئا متبعضا فيفتقر إلى الخالق، بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك، أو على أنه واسع العطاء والرحمة، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق، ولا يجوز حمله على السعة في العلم، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكرارا، فأما قوله: * (عليم) * في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن، وما يخفي على الله من شيء، فيكون متحذرا عن التساهل، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: * (واسع عليم) * أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها، وتوفية عقاب من يتكاسل عنها.
المسألة الخامسة: ولى إذا أقبل، وولى إذا أدبر، وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال، وقرأ الحسن: * (فأينما تولوا) * بفتح التاء من التولي، يريد فأينما توجهوا القبلة.