تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع، وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا: إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى، لأنه يعم كل مصل، وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولا على التطوع دون الفرض، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في الباب أن يقال: إن على هذا التأويل لا بد أيضا من ضرب تقييد وهو أن يقال: * (فأينما تولوا) * من الجهات المأمور بها: * (فثم وجه الله) * إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال، لأنه من المحال أن يقول تعالى: * (فأينما تولوا) * بحسب ميل أنفسكم * (فثم وجه الله) * بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره: إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له: كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي، فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير، ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا.
القول الثاني: وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضا وجوه: أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم، وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم، لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها، وقوله تعالى: * (إن الله واسع عليم) * نظير قوله: * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * (الرحمن: 33) فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم، وهو نظير: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) وقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (المجادلة: 7) وقوله: * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * (غافر: 7) وقوله: * (وسع كل شيء علما) * (طه: 98) أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه. وثانيها: قال قتادة: إن النبي عليه السلام قال: " إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم " فنزل قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) * (آل عمران: 199) فقالوا: إنه كان يصلي إلى غير القبلة، أنزل الله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما، كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر