إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله، وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب، وبقيت العرصة خالية، فإن أهل المشرق والمغرب إذا توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة، فلم يبق إلا أن يقال: القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام، وهذا المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه، فهو أيضا مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام، فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام، كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء، إذا ثبت هذا فنقول: قال أصحابنا: لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله، فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلا للقبلة، وذكر ابن سريج أنه يصح، وهو قول أبي حنيفة، والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء، والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلا للقبلة، فوجب أن تصح صلاته، وقالوا أيضا: الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي، لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته.
المسألة التاسعة: لما دلت الآية على وجوب الاستقبال، وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد، وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنيا على الظن، فكانت الآية دالة على التكليف بالظن، فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم.
المسألة العاشرة: الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه، فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى، كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب.
المسألة الحادية عشرة: استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة، ويلحق به الخوف على النفس من العدو، أو من السبع، أو من الجمل الصائل، أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر، أو في أداء النوافل، وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء، وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ.