من مساكنهم بالحجاز ونجد، فإنه وإن كان قولا له وجه كما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد، وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الأقفاء، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له. وأما الطمس: فهو العفو والدثور في استواء، ومنه يقال: طمست أعلام الطريق تطمس طموسا، إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير:
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت * عرضتها طامس الاعلام مجهول يعني بطامس الاعلام: داثر الاعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي قد تعفي غر ما بين جفني عينيه فدثر: أعمى مطموس وطميس، كما قال الله جل ثناؤه: * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) *.
قال أبو جعفر: الغر: الشق الذي بين الجفنين.
فإن قال قائل: فإن كان الامر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعدهم به؟
قيل: لم يكن لأنه آمن منهم جماعة، منهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومخيرق، وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم.
ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم، ما:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال:
ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلم رسول الله (ص) رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد.
وجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله فيهم: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *... الآية.