فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب الجدال وإعراب الرفث والفسوق، ليعلم سامع ذلك إذا كان من أهل الفهم باللغات أن الذي من أجله خولف بين اعرابيهما اختلاف معنييهما، وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام. فأعجب القراءات إلي في ذلك إذ كان الامر على ما وصفت، قراءة من قرأ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج برفع الرفث والفسوق وتنوينهما، وفتح الجدال بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء.
وأما قول من قال: معناه النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا، والقائلين معناه: النهي عن قول القائل: غدا الحج، مخالفا به قول الآخر: اليوم الحج، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض وخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، فنزلت الآية بالنهي عنه. أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.
وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله عز وجل عن شهور الحج، الاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا.
وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك مع دلالة قول الله تقدس اسمه: إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما.
القول في تأويل قوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله.
يعني بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم لتستوجبوا به الثواب الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم ولجميعه محص حتى أوفيكم أجره وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى علي خافية ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم وعالم بضمائر نفوسكم.