من علم عن النبي صلى الله عليه وآله أو شبهة تنهى عن التدوين لاستند إليها وأراح نفسه.. ولو لم يطلع عليها أبو بكر لاستند إليها الصحابة وقالوها للخليفة عمر عندما استشارهم في تدوين السنة فأشاروا عليه كلهم بالتدوين، ولم تذكر الروايات مخالفا واحدا لذلك!
ألا يكفي ذلك للحكم بأن أحاديث المنع وضعت بعد ذلك لتبرير عمل أبي بكر وعمر؟ ألا يكفي ذلك لأن يتوقف الباحث في أمرها على الأقل، ويتوقف عن معارضة أحاديث الأمر بالتدوين بها، فضلا عن ترجيحها عليها؟!
ثم جاء رشيد رضا بجديد تكاد تخر منه الجبال هدا.. فقال:
(وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه، قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينا عاما دائما كالقرآن. ولو كانوا فهموا من النبي أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن) انتهى.
وينبغي لنا أولا أن نقدر للشيخ رشيد رضا ما توصل إليه من تتبعه آراء (كبار) الصحابة في مسألة التدوين وأنهم (لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينا عاما دائما كالقرآن) فهو لعمري وصف دقيق لتحير الخليفة أبي بكر ثم تحير الخليفة عمر وتصرفاته المتفاوتة المتضاربة، ومواقفه المركبة من سنة النبي صلى الله عليه وآله! فقد أراد أن يكون (بعض) سنة النبي دينا عاما دائما كالقرآن ولكن ليس (كلها) ولا تفسير لمنعه النبي من كتابة وصيته، ثم منعه من تدوين سنته، ثم منعه من إطلاق حرية الصحابة في تحديث الأمة عن نبيها.. ثم تحديثه هو عن النبي صلى الله عليه وآله.. إلا أنه يريد اختيار هذا (البعض) الذي يصلح لأن يكون جزءا من دين الله تعالى، واستبعاد ذلك (البعض) الذي لا يصلح لذلك! نعم هذا هو لب المسألة الذي لم يتجرأ باحث أن يفصح عنه مثل رشيد رضا.. فالمسألة هي تعيين دائرة الدين، وجعل هذا الشئ جزء منه أو خارجا عنه..