ذهبتم إليه من الغسل أقرب من تطرقها في المسح وذلك لما قلناه قبل هذا من أن أكثر العرب في ذلك الزمان ولا سيما أهل البادية كانوا يمشون حفاة والنعل العربية التي كان يلبسها بعضهم لم تكن تقي أقدام أكثرهم وقاية تامة كما هو مشاهد لمن لبسها وكانت أعقابهم تنفطر ليبس هوائهم وكثرة مماستها الرمل والحصباء وقد اشتهر أنهم كانوا يبولون عليها ويزعمون أن البول علاج لها فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أمرهم بغسل أرجلهم عند الوضوء لإزالة النجاسة عنها لا لكون الغسل جزء من الوضوء ثم استمروا عليه وجرت عادتهم به حتى اعتقدوا أنه من الوضوء ثم تعوضوا به عن المسح لظن أن الغسل مسح وزيادة كما مرت الإشارة إليه قبل هذا وحينئذ لا يكون الغسل اختراعا محضا بل ناشيا عن شبهة اقتضت القول به ومثل هذا لا يجري في المسح وأيضا فالاختلاف في الوضوء ليس مختصا بما هو بيننا وبينكم بل أنتم أيضا مختلفون في مسح الرأس اختلافا شديدا فالمالكية يوجبون استيعابه كله والحنفية يوجبون مسح ربعه لا غير والشافعية يكتفون بالمسح على كل جزء منه فهل كان النبي صلى الله عليه وآله يفعل ما يقوله أحد من هؤلاء الفرق الثلاث مدة حياته ثم اخترع الفرقتان الأخريان ما شاؤوا بعد وفاته وادخلوا في الدين ما ليس منه أو أنه صلى الله عليه وآله كان يأتي تارة بما يقول به إحدى الفرق وأخرى بما يقوله الأخرى كما يدعيه المخيرون بين الغسل والمسح أو كان يأتي بالأقسام الثلاثة كما يقوله الجامعون بين الأمرين وكيف يخفى عليكم ما كان يفعله صلى الله عليه وآله بمحضر جمع كثير وجم غفير حتى اختلفتم هذا الاختلاف الشديد فما هو جوابكم عن الاختلاف الواقع فيما بينكم فهو جوابنا عن الواقع بيننا بينكم والحاصل أن الاختلاف بين الأمة في أفعال النبي صلى الله عليه وآله وأقواله المتكررة في غالب الأوقات كالتكتف في الصلاة و قراءة البسملة مع الحمد وغير ذلك كثير (والباعث عليه غير معلوم) فلا ينبغي التعجب من الاختلاف في الوضوء فإن هذا ليس أول قارورة كسرت في الإسلام نسأل الله الهداية والتوفيق درس وما تمسكوا به أيضا وجوه أربعة الأول أن الماسحين بأجمعهم يدعون أن الكعب هو المفصل وهو في كل رجل واحد فلو كان المأمور به في الآية هو المسح كما يدعونه لكان الأنسب أن يقول وأرجلكم إلى الكعاب على لفظ الجمع كما أنه لما كان في كل يد مرفق واحد قال إلى المرافق فقوله سبحانه إلى الكعبين إنما يوافق ما نقوله نحن معاشر الغاسلين من أن في كل رجل كعبين الثاني أن الغسل موجب لبرائة الذمة والخروج عن عهدة الطهارة بيقين لأنه مسح وزيارة إذ مسح العضو إمساسه بالماء وغسله إمساسه به مع جريان ماء فالغاسل آت بالأمرين معا وعامل بالآية الكريمة على كل تقدير فهو الخارج عن عهدة الطهارة بيقين بخلاف الماسح الثالث أن كل من قال بالمسح قال إن الكعب عظم صغير مستدير موضوع تحت قصبة الساق في المفصل كالذي يكون في أرجل البقر و الغنم وهذا شئ خفي مستور لا يعرفه العرب ولا يطلع عليه إلا أصحاب التشريح وأما نحن فالعظمان الناتيان عن جانبي القدم ظاهران مكشوفان ومناط التكليف ينبغي أن يكون شيئا ظاهرا مكشوفا لا خفيا مستورا من أين يعرف علمه الناس أن في المفصل عظما ناتيا عن ظهر القدم يقال له الكعب لينتهوا في المسح إليه الرابع أن الأيدي التي ينتهى هي مغسولة باتفاق الأمة محدودة في الآية الكريمة بغاية والرأس الذي هو ممسوح بالاتفاق غير محدود فيها بغاية والأرجل المختلف فيها لو لم تكن محدودة فيها بغاية لكان ينبغي أن تقاس على غير المحدود وهو الرأس وتعطى حكمه من المسح لكنها محدودة فيها بالغاية
(٢٩١)