الخطاب والجري على هذا النمط المستطاب منها أن من بيده هدية حقيرة معيبة وأراد أن يهديها إلى ملك عظيم ويطلب منه حاجته فإن عرضها عليه بالمواجهة وطلب حاجته بالمشافهة كان ذلك أقرب إلى قبول الهدية ونجاح الحاجة من العرض بدون المواجهة فإن في رد الهدية في وجه المهدي لها كسرا عظيما لخاطره فلا يصدر عن الكريم ومنها انطباق الكلام في هذه السورة الكريمة على قانون السلوك والسير إلى الحق سبحانه و جريانه على وفق حال السالك من مبادئ سيره إلى حين وصوله من اشتغاله بالذكر والفكر والتأمل في أسمائه و النظر في الآية والاستدلال بضائعه على عظم شأنه وباهر سلطانه ثم لا يزال على ذلك حتى يلوح له بروق الظهور وتبدو له ما سر عن الحضور وتؤد به رياضته المجاهدة إلى روضة المشاهدة فيخوض حينئذ لجة الوصول ويخترق حجب الغيبة بأنوار الشهود ورزقنا الله سبحانه وساير الأحباب ذلك بمنه وكرمه فقد تضمنت هذه السورة شرح أدب السير إلى ذلك الباب وتعليم قانون العروج إلى تلك الأعتاب الإرشاد إلى ما هو ثمرة ذلك اليسر ونتيجته من المقامات العزيزة المنال والغايات التي لا يكشف عنها المقال ولعل ذلك هو المقتضي لوجوب قرائتها في الصلاة التي هي معراج العبد ومنها أن الحمد لما كان عبارة عن إظهار صفات الكمال والنداء على الجميل كما قاله صاحب الكشاف وغيره يكون المخاطب به غيره تعالى إذ لا معنى لإظهار صفاته العليا عليه جل شأنه فالمناسب له طريق الغيبة وأما العبادة فهي أمر بين العبد وربه فلا وجه لإظهار ها على الأغيار بل ينبغي كتمانها عما عدا المعبود وعدم إظهارها لأحد سواه فالأنسب بها طريق الخطاب ومنها التلويح بما ورد في الحديث ا عبد الله كما تراه ففي هذا الالتفات إشعار بأن العبادة الشاملة عن القصور هي التي يكون العابد حال الاشتغال مستغرقا في بحر الحضور كأنه مشاهد لجلال معبوده مطالع بجمال مقصوده ومنها أن المقام مقام هائل عظيم يتلجلج فيه اللسان ويدهش عنده الإنسان فإن الملك العظيم الشأن إذا أمر بعض عبيده بخدمة كقرائة كتاب مثلا بحضرته فربما غلبت مهابة ذلك الملك على قلبه واستولت على لبه وحصل له رعشة واعترى له دهشة فيتغير نسق كلامه ويخرج عن أسلوبه ونظامه فمن حق القاري أن يحصل له مثل ذلك الحال في مقام المقام عند سرادق العظمة والجلال ومنها الإشارة إلى أن حق الكلام أن يجري من أول الأمر على طريق الخطاب لأنه سبحانه حاضر لا يغيب بل هو أقرب من كل قريب ولكنه إنما جرى على طريق الغيبة نظرا إلى البعد عن مظان الزلفى رعاية لقانون الأدب الذي هو دأب السالكين وقانون العاشقين كما قيل طرق العشق كلها آداب فلما حصل القيام بهذه الوظيفة جرى الكلام على ما كان حقه أن يجري عليه في ابتداء الذكر فقد قال سبحانه أنا جليس من ذكرني ومنها التنبيه على علو مرتبة القرآن المجيد واعتلاء شأنه وسميا آياته المتضمنة لذكر الله عز شأنه وأن العبد بإجراء هذا القدر منه على لسانه يصير أهلا للخطاب فائزا بسعادة الحضور والاقتراب فكيف لو لازم وظائف الأذكار وواظب على تلاوته بالليل والنهار فلا ريب في ارتفاع الحجب من البين والوصل من الأثر إلى العين وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال لقد تجلى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون وروي عنه أنه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال ما زلت أردد هذه الآية حتى سمعتها من
(٤٠٤)