أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والاجر واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى وقال ابن بطال قوله وأنا على عهدك ووعدك يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجه أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية وبالوعد ما قال على لسان نبيه ان من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة (قلت) وقوله وأدى ما افترض عليه زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة قال وفي قوله ما استطعت اعلام لامته ان أحدا لا يقدر على الاتيان بجميع ما يجب عليه لله ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك الا وسعهم وقال الطيبي يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة كذا قال والتفريق بين العهد والوعد أوضح (قوله أبوء لك بنعمتك على) سقط لفظ لك من رواية النسائي وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه اعترف ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد وأعترف بذنوبي وأصله البواء ومعناه اللزوم ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به (قوله وأبوء لك بذنبي) أي أعترف أيضا وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني وقال الطيبي اعترف أولا بأنه أنعم عليه ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الانعام ثم اعترف بالتقصير وانه لم يقم بأداء شكرها ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس (قلت) ويحتمل أن يكون قوله أبوء لك بذنبي اعتراف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه لا انه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا (قوله فاغفر لي انه لا يغفر الذنوب الا أنت) يؤخذ منه ان من اعترف بذنبه غفر له وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه (قوله من قالها موقنا بها) أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه وليس يبشر بالشئ ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يفغر له به ذنوبه أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء كذا حكاه ابن التين عنه وبعضه يحتاج إلى تأمل (قوله ومن قالها من النهار) في رواية النسائي فإن قالها حين يصبح وفي رواية عثمان بن ربيعة لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل ان يمسي (قوله فهو من أهل الجنة) في رواية النسائي دخل الجنة وفي رواية عثمان بن ربيعة الا وجبت له الجنة قال ابن أبي جمرة جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار ففيه الاقرار لله وحده بالإلهية والعبودية والاعتراف بأنه الخالق والاقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك الا هو وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة فإن تكاليف الشريعة لا تحصل الا إذا كان في ذلك عون من الله
(٨٤)