علا المواضع المشرفة منها، ويقل ما يزرع في الأرض... ألا ترى أن الذي يزرع سيحا (1) أقل من ذلك، فالأمطار هي التي تطبق الأرض، وربما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فتغل الغلة الكثيرة. وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤنة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز والقوة، ويحرمه الضعفاء، ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض إنحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش، ليغور في قعر الأرض فيرويها، ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها، ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها، فصار ينزل نزولا رقيقا، فينبت الحب المزروع، ويحيي الأرض والزرع القائم.
وفي نزوله أيضا مصالح أخرى، فإنه يلين الأبدان، ويجلو كدر الهواء، فيرتفع الوباء الحادث من ذلك، ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الدماء المسمى باليرقان (2) إلى أشباه هذا من المنافع، فإن قال قائل: أو ليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير، لشدة ما يقع منه، أو برد (3) يكون فيه تحطم الغلات، وبخورة يحدثها في الهواء، فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان والآفات في الغلات؟ قيل: بلى قد يكون ذلك الفرط، لما فيه من صلاح الإنسان، وكفه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها. فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه، أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله!.
(منافع الجبال) أنظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة، التي يحسبها