المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن، يخرجون إليه أن أحدهم ينسى أنه بشر، وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه، أو أن مكروها ينزل به، أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا، أو يواسي فقيرا، أو يرثي المبتلي، أو يتحنن على ضعيف، أو يتعطف على مكروب، فإذا عضته المكاره ووجد مضضها، اتعظ وابصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه، ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.
والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة، ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة، ويتكرهون الأدب والعمل، ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة، وينالوا مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي الأدوية من المنفعة، وإن شاب ذلك بعض الكراهة، فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره، قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها.
فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفي كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك، بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق، وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق، فيكمل السرور والاغتباط بما يناله منه... فإن قالوا: أو ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو