هذه الوجود شئ يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته، غير أنه موجود فقط. فإذا قلنا: وكيف وما هو؟ فممتنع علم كنهه. وكمال المعرفة به. وأما لماذا هو؟ فساقط في صفة الخالق، لأنه جل ثناؤه علة كل شئ.
وليس شئ بعلة له، ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود، يوجب له أن يعلم:
ما هو وكيف هو؟ كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم: ما هي وكيف هي؟ وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة... فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا، حتى كأنه غير معلوم؟ قيل لهم: هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كهنه والإحاطة به، وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية. فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد، وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.
(أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم) فأما (أصحاب الطبائع) فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا عما فيه تمام الشئ في طبيعته، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك، فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة، والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟ فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال، فقد أقروا بما أنكروا، لأن هذه في صفات الخالق. وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة، فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم، وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء، وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كانسان يولد ناقصا أو زائدا أصبعا، أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما أتفق أن يكون؟. وقد كان