الإنسان على غيره من الخلق، وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب، وثقة بما وعد الله عنه، ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف، ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك، ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب، حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم، ثم لا يعرف ما غاب، ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا، وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة هذه الدنيا، ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته، حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شئ من اليقين بما عند الله، ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها، مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.
فقد ترى كثيرا من الصالحين، يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون، فيؤثرون الفسق الصلاح، وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون (1) بالغرق وبخت نصر (2) بالتيه وبلبيس (3) بالقتل وان أمهل بعض الأشرار