ذكر الصيد بالألف واللام بقوله عز وجل لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم والألف واللام لاستغراق الجنس خصوصا عند عدم المعهود ثم قال تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل والهاء كناية راجعة إلى الصيد الموجد من اللفظ المعرف بلام التعريف فقد أوجب سبحانه وتعالى بقتل الصيد مثلا يعم ماله نظير وما لا نظير له وذلك هو المثل من حيث المعنى وهو القيمة لا المثل من حيث الخلقة والصورة لان ذلك لا يجب في صيد لا نظير له بل الواجب فيه المثل من حيث المعنى وهو القيمة بلا خلاف فكان صرف المثل المذكور بقتل الصيد على العموم إليه تخصيصا لبعض ما تناوله عموم الآية والعمل بعموم اللفظ واجب ما أمكن ولا يجوز تخصيصه الا بدليل والثاني ان مطلق اسم المثل ينصرف إلى ما عرف مثلا في أصول الشرع والمثل المتعارف في أصول الشرع هو المثل من حيث الصورة والمعنى أو من حيث المعنى وهو القيمة كما في ضمان المتلفات فان من أتلف على آخر حنطة يلزمه حنطة ومن أتلف عليه عرضا تلزمه القيمة فاما المثل من حيث الصورة والهيئة فلا نظير له في أصول الشرع فعند الاطلاق ينصرف إلى المتعارف لا إلى غيره والثالث انه سبحانه وتعالى ذكر المثل منكرا في موضع الاثبات فيتناول واحدا وأنه اسم مشترك يقع على المثل من حيث المعنى ويقع على المثل من حيث الصورة فالمثل من حيث المعنى براد من الآية فيما لا نظير له فلا يكون الآخر مرادا إذ المشترك في موضع الاثبات لا عموم له والرابع ان الله تعالى ذكر عدالة الحكمين ومعلوم ان العدالة إنما تشترط فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل وذلك في المثل من حيث المعنى وهو القيمة لان بها تحقق الصيانة عن الغلو والتقصر وتقرير الامر على الوسط فاما الصورة فمشابهة لا تفتقر إلى العدالة واما قوله تعالى من النعم فلا نسلم ان قوله تعالى من النعم خرج تفسيرا للمثل وبيانه من وجهين أحدهما ان قوله فجزاء مثل ما قتل كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصلة بغيره لكونه مبتدأ وخبرا وقوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدى الذي يوجد بذلك القدر من القيمة فلا يجعل قوله مثل ما قتل مربوطا بقوله عز وجل من النعم مع استغناء الكلام عنه هذا هو الأصل الا إذا قام دليل زائد يوجب الربط بغيره والثاني أنه وصل قوله من النعم بقوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقوله عز وجل أو كفارة طعام مساكين وقوله عز وجل أو عدل ذلك صياما جعل الجزاء أحد الأشياء الثلاثة لأنه أدخل حرف التخيير بين الهدى والاطعام وبين الطعام والصيام فلو كان قوله من النعم تفسيرا للمثل لكان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما وبين النعم إذ لا فرق بين التقديم والتأخير في الذكر بأن قال تعالى فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا لان التقديم في التلاوة لا يوجب التقديم في المعنى ولما لم يكن الطعام والصيام مثلا للمقتول دل أن ذكر النعم لم يخرج مخرج التفسير للمثل بل هو كلام مبتدأ غير موصول المراد بالأول وقول جماعة الصحابة رضي الله عنهم محمول على الايجاب من حيث القيمة توفيقا بين الدلائل مع ما ان المسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى عن ابن عباس مثل مذهب أبي حنيفة وأبى يوسف فلا يحتج بقول البعض على البعض وعلى هذا ينبنى اعتبار مكان الإصابة في التقويم عندهما لان الواجب على القائل القيمة وانها تختلف باختلاف المكان وعند محمد والشافعي الواجب هو النظير اما بحكم الحكمين أو ابتداء فلا يعتبر فيه المكان وقال الشافعي يقوم بمكة أو بمنى وانه غير سديد لان العبرة في قيم المستهلكات في أصول الشرع مواضع الاستهلاك كما في استهلاك سائر الأموال ومنها أن الطعام بدل عن الصيد عندنا فيقوم الصيد بالدراهم ويشترى بالدراهم طعاما وهو مذهب ابن عباس وجماعة من التابعين وعن ابن عباس رواية أخرى أن الطعام بدل عن الهدى فيقوى الهدى بالدراهم ثم يشترى بقيمة الهدى طعاما وهو قول الشافعي والصحيح قولنا لان الله تعالى جعل جميع ذلك جزاء الصيد بقوله عز وجل فجزاء مثل ما قتل من النعم إلى قوله أو كفارة طعام مساكين فلما كان الهدى من حيث كونه جزاء معتبرا بالصيد اما في قيمته أو نظيره على اختلاف القولين كان الطعام مثله ولان فيما لا مثل له من النعم اعتبار الطعام بقيمة الصيد
(١٩٩)