فإنه لما جعل الباري بمقتضى مصلحته وحكمته في جبله الحيوانات للجوع والعطش واللذة من الملايم والأذى من المنافر صارت هي أسبابا لانتهائها ودواعي عطب أبدانها وهلاك هياكلها وشقاوة نفوسها على الضرورة والاستتباع.
اما قصد الباري الحكيم في ايجاده وصنعه ذلك فهو لأجل بقائها وصلاحها فإنه تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما يدعوها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس بدلا مما يتحلل منها ساعة فساعة إذا كانت أجسامها دائما في الذوبان والسيلان واما الشهوات فلكيما يدعو بها إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما يحتاج اليه طباعها واما اللذة فكيما تأكل بقدر الحاجة ولا يزيد ولا ينقص واما الآلام والأوجاع عند الآفات العارضة لأجسادها لكيما تحرس نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات لها إلى اجل معلوم واما كون بعض الحيوانات آكله لجيف بعض فلئلا يضيع شئ مما خلق بغير نفع.
واعلم يا حبيبي انه قد تحيرت العقول في كون بعض الحيوانات آكله لبعض وفيما جعل الله تعالى ذلك في طباعها وهيا لها الآلات والأدوات التي يتمكن بها على ذلك كالأنياب والمخاليب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط و الخرق والنهش والاكل والشهوة واللذة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل فلما تفكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا الغاية والحكمة فاختلف عند ذلك بهم الآراء وتفننت بهم المذاهب حتى قال بعضهم ان تسلط الحيوانات بعضها على بعض واكل بعضها لبعض ليس من فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلام للعبيد فلهذا قالوا إن للعالم فاعلين خيرا وشريرا.
ومنهم من نسب ذلك إلى النجوم ومنهم من قال إن هذا عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب والمعاصي في الادوار السابقة وهؤلاء هم التناسخية ومنهم من قال بالعرض ومنهم من قال إن هذا أصلح ومنهم من أقر على نفسه بالعجز قال لا ادرى ما العلة في اكل الحيوانات بعضها بعضا غير أنه قال إن الباري تعالى لا يفعل الا الحكمة وكل هذه الأقاويل قالوها في طلبهم العلة ووجه الحكمة.