الفصل في الإشارة إلى المحبة الإلهية المختصة بالعرفاء الكاملين والأولياء الواصلين قد مر ان العشق الانساني على ثلاثة أقسام الأكبر والأوسط والأصغر وان الأكبر هو الاشتياق إلى لقاء الله والشهوة إلى عرفان ذاته وصفاته وافعاله من حيث هي افعاله فهذه الشهوة لم توجد لغير العارف وحال الناس كلهم في أشواقهم وشهواتهم إلى محبوباتهم ومرغوباتهم بالقياس إلى حال العارف كحال الصبيان في التذاذهم باللعب بالصولجان بالقياس إلى حال الرجال البالغين في أغراضهم ومستلذاتهم ورياساتهم فإنه لو خلق فيك شوق إلى الله تعالى وشهوة لمعرفة جماله وجلاله وهو أصدق الشهوات وأحق اللذات لكنت تؤثرها على كل الخيرات وتختار جنه المعرفة ورياض الحكمة وثمراتها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات الحسية والخيالية ولكن هذه الشهوة وهذه الإرادة لم تخلق لعوام الناس ولا لأكثر الخاصين الذين يعدون أنفسهم من أهل الفضيلة الا من يندر وجوده من الراسخين في العلم وكما أن شهوة النكاح وشهوة الرياسة خلقت فيك ولم تخلق في الصبيان الا شهوة اللعب بالصولجان ونحوه وأنت تتعجب في عكوفهم على لذه اللعب وخلوهم عن لذه الرياسة فهكذا العارف يتعجب منك ومن نظراءك في عكوفهم على لذه الجاه والرياسة فان الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب.
ولما خلق الله هذا العشق للعارفين كان شوقهم بقدر عشقهم وشهوتهم بقدر معرفتهم ولا نسبه لاشتياقهم وشهوتهم إلى لذه الشهوات الحسية سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة فان لذاتهم بالمعرفة لذه لا يعتريها الزوال ولا يفترها الملال بل لا يزال يتضاعف ويترادف بزيادة المعرفة والاستغراق فيها بخلاف سائر الشهوات الا ان هذا العشق لا يخلق في الانسان الا بعد ان يمر عليه نشأت ويتحول بأحوال كثيره وينتقل من حد الحيوانية إلى حد المليكه كما ينتقل نطفة الحيوان من حد الجمادية والنباتية إلى حد الحيوانية وكما ينتقل الادمى من حد الصيبوبه إلى حد البلوغ الصوري وصار معدودا من الرجال البالغين الكاملين في الشهوة فهكذا مادة العقل