ميادين الأدب وسائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك إن المركب الإنساني لا يرضيه، طبيعيا، إلا ما كان نتاجا لهذا المركب كله. وهذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. وإنك لتحس نفسك مندفعا في تيار جارف من حرارة العاطفة وأنت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.
أفلا يشيع في قلبك الحنان والعطف شيوعا وأنت تصغي إلى علي يقول، (لو أحبني جبل لتهافت) أو (فقد الأحبة غربة!) أو (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وقالوا: (إلا أن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أم مت متأسفا! فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي!).
وإليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمه الرسول:
(السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك!
قل، يا رسول الله، عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز!) ومنه (أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!) ثم إليك هذا الخبر:
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:
خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف: فقال عليه السلام، في جملة ما قال: (إلا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان مدبرا. وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى! ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، ويشربون الرنق؟! قد، والله، لقوا الله فوفاهم أجورهم وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم! أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية؟)