وأي إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: من تخفف لحق) وأي جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا.
ثم عن أي حدة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، يشف هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك!).
ويستمر تولد الأفكار في (نهج البلاغة) من الأفكار فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.
وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويترتب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي وما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم وإنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن عليا لم يكن ليعد خطبة ولو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. وكالصاعقة إذ تزمجز ولا تهئ نفسها لصعق أو زمجرة.
وكالريح إذ تهب فتلوي وتميل وتكسح وتنصب على غاية ثم إلى مداورها تعود ولا يدفعها إلى أن تروح وتجئ إلا قانون الحادثة ومنطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!
ومن مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.
ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف.