أو في مثل هذا التشبيه الساحر: (فتن كقطع الليل المظلم).
أو هذه الصورة المتحركة: (وأنما أنا كقطب الرحى: تدور علي وأنا بمكاني!) أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: (ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة!) ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. والتمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. وإن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر، فهو وإن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك إلى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول، (صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه) وإن شئت مثلا آخر فاستمع إليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول، (إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه!) والردف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: (إياك ومصادقة الكذاب.
فإنه كالسراب: يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب!) أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت وما أبشع وجهه. وما أورع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، ومن الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوربا ساعة صوروا الموت وهوله لونا ونغما وشعرا.
فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قاتم ونغم حزين: (فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة!) ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون، بعبارات متقطعة متلاحقة وكأن فيها دوي طبول تنذر تقول (ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع