قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!
وأخبر ضرار بن حمزة الضابئ قال: فأشهد لقد رأيته - يقصد الإمام - في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا، إليك عني! أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها!
فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير! آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد!) هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أنى اتجه في نهج البلاغة، وحيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب والسخط، كما تواكبه في ما يثير العطف والرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل ويحيطونه بالسلاح وبالأرواح، تألم وشكا، ووبخ وأنب، وكان شديدا قاصفا، مزمجرا كالرعد في ليالي الويل! ويكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: (أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب الخ). لتدرك أية عاطفة متوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة وجيشانها!
وإنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدف ء في مآثر الإمام.
فهي في أعماله، وفي خطبه وأقواله، مقياس من المقاييس الأسس. وما عليك إلا أن تفتح هذا الكتاب كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة والعمق العميق!