خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين. ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود.
وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان علي يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعية الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمر في مخيلة علي إلا وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمده بالحركة والحياة فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع ويبرزه ويجليه، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته، ويصبغه بألوان كثيرة من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
وقد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع. وقد مر من أطوار حياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومر منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين. فتيسرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حية، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع وأغصان، ذات أوراق وأثمار!
ومن ثم يمكنك، إذا أنت شئت أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون، لشدة واقعيتها واتساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها. ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا:
(لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر (1)!