الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتشعلها العاطفة، ويجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئن، قائلا:
(وإنما الأيام بينكم وبينهم بوأك ونوائح عليكم). ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
(ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا، وبالسمع صمما، وبالحركات سكونا.
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (1)! جيران لا يتآنسون، وأحباء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليل صباحا، ولا لنهار مساء. أي الجديدين (2) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (3)) ثم يقول هذا القول الرهيب: (لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم!) فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هول الموت ووحشة القبر وصفة سكانه في قوله: (جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون!) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي: (أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!) ومثل هذه الروائع في (النهج) كثير.
هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخية حارة. وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمده العاطفة بالدف ء. وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في